السبت، 2 يونيو 2012

أسس التخطيط الأستراتيجي في الإسلام


إن الغيبيات تشكل معضلة منطقية عند مفكري التوجه الإسلامي في العصر الحديث، فهي لا تكاد تحظى بأي اعتبار أو نصيب في معادلة الرؤية السياسية المستقبلية أو التخطيط الإستراتيجي على المدى القصير والبعيد. إنها ردة فعل عنيفة ضد عصور التخلف التي عانت منها الأمة جراء الإنغماس في غيبيات والتواكل عليها مما أدى إلى توقف حركتها الحضارية وتقاعسها عن الأخذ بالأسباب المادية. وقد أشار الكثير من أصحاب الرأي إلى أن عصور الظلام التي عاشها المسلمون كانت تتصف بوجود علاقة طردية بين ضعف الأمة وإنهيار مقوماتها الدفاعية والتوجه الفكري الديني نحو عالم الغيبيات بدلاً من اتخاذ الأسباب والعمل الحثيث على الارتقاء بالأمة. ولعل ضيق الأفق والتردي الفكري والخلل في فهم معني لا إله إلا الله هو الذي أدى ببعض فقهاء المسلمين أن يحمدوا الله على المنابر أن شغل الفرنجة بالعلم ليتفرغ المسلمون بطاعة العبادة، حيث الانشغال بالعلم يعني أن دنياهم كانت أكبر همهم ومبلغ علمهم أما المسلمون فالآخرة دون الدنيا هدفهم ومبتغاهم وكأن الهدفان منفصلان لا يلتقيان.
وقد يجد المرء أن ما تقدم من قول أقرب إلى الطرفة منه إلى الحقيقة لسذاجته ومجانبته للصواب. ولكن هذا الفكر لم يكن إلا نتاجاً طبيعياً لإنهيار شامل بدأ بالفساد السياسي وظل ينخر في جسد الأمة حتى بلغ بها مبلغ السقم والإعياء في الأفكار والمعتقد إضافة إلى التخلف المادي الذي لا زلنا نعاني منه حتى يومنا هذا. وهبّ كثير من علماء المسلمين في عصر الصحوة لإعادة الأمور إلى نصابها فمنهم من آمن بالشمولية والتوازن، ومنهم من انحرف نحو عقلانية محضة وفكر مادي بحت وإن كان قد ألبسه لبوس الإسلام ومسوحه.
إن الإيمان بالغيبيات قاعدة أساسية ومرتكز من مرتكزات ديننا الذي لا يكتمل بدونه. والتوفيق بين الغيب وإيماننا بما سوف يكون من جهة، والأخذ بالأسباب من جهة أخرى أمر واجب التحقيق، وبدونه تعتبر رؤى المسلم قاصرة مبتسرة لا يمكنها أن تحمل صاحبها على بلوغ الهدف المنشود فهي دوماً تنحرف به عن المسار أو تتنكب به الطريق.
إن الساعة غيب والإعداد لها واجب وما كان لأحد غير سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين الساعة والإعداد في كلمة بليغة موجزة. إنها لعمري النبوة المحمدية فما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. وما ضرورة الإيمان بالغيبيات إلا لأنها تمثل المعالم والمنعطفات التي ستواجهها الأمة على وجه التحقيق واليقين. ولولا أهمية هذا الغيب لما ورد في أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم أخبار وأشراط الساعة وإبلاغه للصحابة بما هو كائن وما سوف يكون. ولولا أهمية هذا العلم في حياة الأمة والتخطيط لمستقبلها لما بثه سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس ولو أن حواريو رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة فهموا الغيبيات كما فهمها المتأخرين، لما فتحوا الدنيا وعمروها ولما أنشأوا الدواوين وصكوا النقود وجهزوا الجيوش ورفعوا من قدر العلم والعلماء يوم أن كان يشار إلينا بالبنان.
إن عالم اليوم هذا، الذي نصفه مجازاً بالعالم المتحضر، ليبذل الغالي والنفيس في استشراف المستقبل والإعداد له من خلال التوقعات والرؤى المستقبلية. وهاهي أمة الإسلام قد منّ الله عليها بوحي ثابت صحيح من المؤشرات والدلائل التي تدور حولها الأحداث والتي سوف تؤثر في الأمة إن سلباً أو إيجاباً فيكون الإعداد على مستوى اليقين لا التوقع والظن البشري فحسب.
ولعل أولئك المتبعين للغرب حذو القذة بالقذة فاتهم أن جل العناصر المؤثرة في المؤسسات السياسية وأبحاث التخطيط الاستراتيجي والرؤى المستقبلية الغربية تعتمد في منطلقاتها على البعد الديني الموجود في كتبهم المقدس، فتلبس الرؤية المستقبلية الدينية التي تؤمن بها ثوباً قشيباً من التحليل العلمي لكي تمنطق ما تبذله من إعداد لهذا التوقع المستقبلي وتنـزلها على واقع النبوءات والإسرائيليات، فنجد موائمة عجيبة يصعب على العاقل أن يعزيها إلى المصادفة المحضة.
إنه لمن المؤلم أن ننأى بأنفسنا عما نعرفه يقيناً من أحداث مستقبلية بشرنا بها أو حذرنا منها سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفس القدر الذي نستهجن به فكر أولئك الذين تواكلوا وركنوا إلى ما سوف يكون دون الإعداد له. وكلا الفريقين قد ساء ظنه بالله سبحانه وتعالى وإيمانه به من حيث يدري ولا يدري، أو ركن إلى هوان وتكاسل وتقاعس متعذراًَ بحكم الله النافذ والسابق.
وللقوم من أصحاب التوجه العقلاني المحض أقول لهم؛ أنه يسعهم في معرض انشغالهم بنتاج مراكز الأبحاث الفكرية والعالمية أن يفرغوا حيزاً لرؤى الإسلام المستقبلية إن أمنوا حقاً بأن ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وحي يوحى يفوق الجميع بحتمية الحدوث ويقينيته ولا يقف عند حدود التوقع ومنطق العقل فقط. أما الفريق الأخر الذي إثّاقل إلى الأرض ينتظر علو نجم الإسلام بعز عزيز أو ذل ذليل، أقول بأن بشرى الحبيب صلى الله عليه وسلم ليست لهم بل لأولئك الذين يسعون ويخططون مهتدين بهذه الرؤية وهذه البشرى.
وما نحن والساعة إلا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما أنا والساعة إلا كهاتين وأشار بإصبعيه الشريفين ضاماً إياهما). ولهذا كان علم الساعة والفهم الدقيق لشروطها ولما سوف يسبقها من أحداث وعلامات ومتغيرات حضارية وتاريخية من أوجب واجبات المعرفة لكل مشتغل بالأبحاث والرؤية المستقبلية والتخطيط الإستراتيجي لهذه الأمة. أو ليس هو الروح الأمين قد جاء إلى سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هيئة رجل وضيء الوجه أبيض الثياب يسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان ثم يسأله بعدها عن الساعة ومقوماتها، فلما إذن السؤال عن أمر غيبي يعتقد البعض إن الجهل به غير ضار والعلم به غير نافع. إنها لعمري إشارة واضحة على أهمية هذا العلم في حياة الأمة ومستقبلها.            

والله من وراء القصد

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق